الثلاثاء , 30 أبريل 2024

المشهد السعودي أكثر المشاهد الإقليمية “اضطرابًا” و”قلقًا”

على مدى السنوات الثلاث الماضية، ومنذ تولي الملك سلمان الحكم، أصبح المشهد السعودي باعثًا على الحيرة والغموض؛ فلم تهدأ المملكة يومًا، ولم تدع أحدًا في الإقليم يهدأ، مع قرارات داخلية عاصفة وتغييرات طالت كل أركان الدولة وثوابت السياسة وقواعد الحكم، وتحركات سياسية وعسكرية سريعة وتحالفات إقليمية ودولية معقدة ومتشابكة. وبلغت ذروة الحيرة مؤخرًا، مع ما اعتبره البعض احتجازًا لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الرياض، على نحو أطلق العنان للعديد من الروايات الصحفية المثيرة.
وإلى حد كبير أصبح المشهد السعودي أكثر المشاهد الإقليمية “اضطرابًا” و”قلقًا” وربما “إقلاقًا” (على حد ما يرى الخصوم والمعارضون)، وهو أكثر المشاهد “حركية” و”نشاطًا” و”تأهلًا للقيادة” (على حد ما يرى المؤيدون والمساندون). وبالنسبة للمعارضين يبدو المشهد وقد خرج عن حدود السيطرة، وبالنسبة للمؤيدين يبدو المشهد منضبطًا ومحكومًا، ويجري توظيفه والاستفادة منه على نحو مخطط ومدروس.
ولقد طرح كل ذلك السؤال الأساسي الذي أصبح عنوانًا رئيسيًا للعديد من المانشيتات والمقالات الصحفية منذ عام 2015 وحتى الآن، وهو: ما الذي يجري في المملكة؟[1]. وللإجابة على هذا السؤال يمكن تناول ثلاثة مداخل، تساعد -مشتركة- في تفسير الحالة السعودية:
أولاً: المدخل الشخصاني
ينظر أنصار هذا المدخل لكل خطوات وتحركات المملكة في الداخل والخارج، ويقرأها من منظور شخصاني مركزًا على الخصائص والبواعث الشخصية للملك سلمان، وابنه الأمير محمد، لأجل ضمان تثبيت المملكة وحيازة الملك. على سبيل المثال، لا يرى أنصار هذا المدخل في حرب اليمن إلا رغبة شخصية من الأمير الشاب، الذي تقلد وزارة الدفاع، لإثبات نفسه وتأكيد مكانته. كما لا يرى في القرارات السياسية التي اتخذت لتنظيم بيت الحكم والسلطة منذ مطلع 2015، إلا اندفاعًا للتوريث، وتمكين الأمير الشاب من الصعود إلى سلم السلطة، ولا يرى في أزمات المملكة مع إيران وقطر وتركيا، ثم لبنان حاليا، إلا اندفاعًا بقرارات شخصية، كما لا يرى في قرارات الداخل، التي اتجهت إلى تعيين جيل الشباب في المناصب العامة، وإصدار رؤية 2030، والتقليص شبه النهائي لدور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنشاء الهيئة الوطنية للترفيه، ومنح المرأة قيادة السيارة، والحرب ضد الفساد، ومشروع “نيوم” الذي أعلن عنه قبل أقل من شهر، والدعوات إلى إسلام وسطي معتدل، لا يرى في كل ذلك إلا توجهات شخصية تستهدف الوصول إلى السلطة.
وباختصار، فإن أنصار هذا المدخل لا يرون في المملكة سوى الملك سلمان وابنه الأمير محمد، ولم تبرح تحليلاتهم لمجمل المشهد السعودي في الفترة الماضية أحداث ومستجدات العلاقة بين الملك وشقيقه الأمير مقرن عندما كان وليًا للعهد في 2015، ثم العلاقة بين الثلاثي الأمير محمد بن سلمان والأمير محمد بن نايف والأمير متعب بن عبدالله، باعتبارهم رموز ورؤوس السلطة القائمة والسابقة، وهنا لا يمكن منافسة صحفيين دوليين بارعين قدموا رواياتهم التي سيطرت على التحليلات في العالم، مثل روبرت فيسك وديفيد هيريست وتوماس فريدمان من صحفيين غارقين في تتبع أحاديث النميمة ودهاليز الحكم في بيت آل سعود، وفي الأغلب دارت الروايات العربية حول هذا المدخل من التفسير.
وإذا كان بالإمكان الحديث عن دور الجانب الشخصي، فإن أهم ما في هذا الجانب في الوضع السعودي الراهن، هو الطبيعة الشخصية للملك وولي العهد، والتي اتضحت في إدارة الحكم منذ اليوم الأول، وهي الاستعداد للإقدام على قرارات غير تقليدية، بحيث أن هناك شك فعلي، في إمكان الإقدام على مثل هذه القرارات لو كان هناك أحد آخر في السلطة، وهذه الخصيصة الشخصية مؤثرة في جزء من المشهد، وبدت في عدم التسليم بالمسار الاعتيادي المتسلسل لتحقيق الأهداف، والإقبال على حرق المراحل، وإمكان فتح كل جبهات الصراع بمسار أفقي ورأسي وفي الداخل والخارج في الوقت ذاته. وفي الاتجاه نفسه أيضًا، يمكن اعتبار رؤية المملكة 2030 باعتبارها رؤية شخصية، وأنه وفقًا لتطبيق هذه الرؤية سيتوقف المستقبل الشخصي للأمير محمد بن سلمان. كما أن البعد الشخصي والجيلي فارق في طروحات الأمير، حيث إن أحدًا آخر بتركيبة شخصية وعمرية مختلفة لم يكن ليتجه إلى تبني قرارات مماثلة أو إطلاق مشروعات كبرى مثل مشروع “نيوم”.
هذا المدخل، رغم أنه يتسق مع ظواهر الحالة السعودية ورؤوس هضاب المشهد السياسي في المملكة، وبالنظر إلى ترافق التلاحق السريع للأحداث والقرارات اللامتناهية ومشهد الصعود الصاروخي للأمير الشاب، فقد حدث اختلاط في التفسير، مع ذلك يبقى هذا المدخل عاجزًا تمامًا عن إدراك كافة أبعاد الصورة. صحيح أن الترتيبات التي تجري ترافقت خطوة بخطوة مع تصعيد الأمير، لكنها ترافقت أيضًا –خطوة بخطوة- مع أوضاع صعبة وإجراءات كان من المهم اتخاذها على وجه السرعة، وإلا تعرضت المملكة للمخاطر، ليس بعيدًا عنها خطر التجزئة أو التفكك، أو على الأقل الاضطراب في المجتمع وداخل الأسرة.
ويتناسى هذا المدخل أيضًا طرح أسئلة ضرورية واجبة، وهي: ماذا عن مئات وربما آلاف المستشارين الخاصين بالمؤسسة الملكية، وهل وضعت كل هذه التصورات والأفكار والمشروعات الكبرى التي يجري الإعلان عنها بين يوم وليلة، أم أنها تتحرك بتدرج وانضباط في عملية سريعة، لكنها مدروسة ومنظمة، على نحو ما يبدو من القرارات التي تُطرح فجأة، لكنها تبدو مرتبة بعناية قبلها بفترة؟ وثانيًا، هل الأسرة الحاكمة لم تكن في الصورة عند البدء في تلك الإجراءات، أم أن هناك تباينات داخلها، ولماذا لم تخرج أي أشكال معارضة سياسية بين الأمراء؟
هذه الأسئلة ينبغي طرحها، إذا أردنا أن نبلور وجهة نظر مكتملة، حول حجم دور المدخل الشخصاني في المنظومة الكلية القائمة على صنع قرارات المملكة حاليًا.
ثانيًا: المدخل البنيوي البيروقراطي


يركز أنصار هذا المدخل على الجوانب الهيكلية والبنيوية الدافعة لعملية التغيير والإصلاح السريعة التي تجري، والتي احتاجت تدخلًا جراحيًا سريعًا. هنا يصف كاتب سعودي الوضع بأن المملكة كانت في حاجة لأن تدخل”مصحة علاجية تتخلص خلالها من بعض الزوائد الشحمية واللحمية، وتسعى لاستعادة شيء من نضارتها ونشاطها وحيويتها التي أقعدها الترهل والروتين”[2].
على رأس الدولة، سبق الملك سلمان ملكان حكما لثلاثة عقود، هما الملك فهد والملك عبدالله، وبقي كل منهما في السلطة حتى انتهى بهما الحال إلى إدارة الحكم على كرسي متحرك، وكان من الضروري التجديد في ترتيب شئون الدولة بتمكين جيل الأحفاد بعدما اقترب جيل الأبناء من النفاد، ولم يبق إلا من هم غير قادرين صحيًا أو غير راغبين. وحين تولى السلطة في مطلع العام 2015 كان الملك سلمان أمام مؤسسة وفريق عمل لمدة طويلة مع الملك عبدالله، وأخذ هذا الفريق في تمهيد عملية الانتقال والخلافة في ظل ترتيب معين، وكان من الطبيعي أن يأتي الملك الجديد على المراكز والأشخاص الذين شاركوا في الترتيب السابق، وبالنظر إلى دور الولاءات الشخصية والسياسية والمواءمات المصلحية للمجموعات، فإن إزاحة هيكل موجود ومتغلغل كان يقتضي إزاحة كامل الفريق والجهاز، وهو ما حدث بشكل دراماتيكي منذ اليوم الأول لتولي الملك سلمان العرش
وبالنظر إلى استمرار بيت الحكم والأسرة لعقود دون تغييرات كبرى، فقد تراكمت إشكاليات هائلة وجمود مؤسسي راكم أوضاعًا وامتيازات نظامية وغير نظامية، ونشأت طبقات مصلحية ورجال مال وأعمال تراكمت ثروات البعض منهم عبر الأنشطة غير الإنتاجية وأتخمت من أموال الفساد والتهرب الضريبي وتجارة الأراضي، وأصبح المطلوب إحداث “زلزال اصطناعي” داخل الدولة، عبر هزات شديدة في البيروقراطية وبيت الحكم وطبقة المال والأعمال. وفي الحقيقة، فقد كانت أخبار الفساد في المملكة قد شاعت منذ فترة طويلة، وهو ما أخذ ينخر في عظام الدولة ويأتي على صورة وهيبة الحكم، على نحو ما كشف عنه ملف فساد كارثة سيول جدة في  عام2009، وملف فيروس كورونا في عام 2012، وملف تبديد تسعة مليارات و700 مليون ريال من قبل شركة الاتصالات[3].
وللتعرف إلى حجم الفساد الذي وقع بالمملكة، تشير التقديرات بأنه إذا حاولت لجنة مكافحة الفساد أن تستعيد كل الإيرادات التي أهدرت بسبب الفساد من الرشا إلى مصادرة الأراضي بشكل غير مشروع فإن المبلغ الإجمالي سيكون 800 مليار دولار. وإذا أخذنا بالرواية الرسمية للنائب العام السعودي فإن القيمة المالية المحتملة لممارسات الفساد تتجاوز 100 مليار دولار[4].
ولم يكن قرار الملك سلمان بإنشاء لجنة لمكافحة الفساد هي المرة الأولى التي تقرر فيها المملكة مكافحة الفساد، ففي عام 2004 تم تبني الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، والتي نصت على إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي نشأت فعليا بقرار ملكي، لكن ظلت إجراءات مكافحة الفساد تسير بخطوات بطيئة، وترتب على ذلك شيوع إحباط شعبي عكسته مئات المقالات والكتابات، حتى جاءت القرارات الأخيرة. وبينما في المرات السابقة كانت الوفورات النفطية تمكن الدولة من استمرار الصرف والإنفاق بنفس الخطوات دون اضطرار لخوض الحرب مع الفساد حتى النهاية، فإن الحملة هذه المرة تترافق مع تراجع عائدات النفط، ما جعلها أقرب إلى قرار الضرورة.
أما المتغير الآخر الهيكلي بالمملكة، والذي يفسر جزءا من الحالة السعودية، فهو الثورة الاجتماعية والتعليمية التي شهدتها الدولة خلال العقدين الأخيرين، خصوصًا من ناحية فئتين مهمتين هما الشباب والمرأة: فمن خلال برنامج الابتعاث الخارجي الذي أطلقه الملك عبدالله خلال الفترة (2005- 2006)[5]، حصل مئات الآلاف من الشباب والطلبة والطالبات على تعليم في أفضل الجامعات العالمية، ثم عادوا إلى بلادهم يطلبون الوظائف والتعيينات المناسبة لمؤهلاتهم، ولأجل هؤلاء اندفعت المملكة في مشروعات جديدة مثل مشروع “القدية” و”مشروع البحر الأحمر”، ثم مشروع “نيوم”.
إن وجود هذه الفئات الاجتماعية الجديدة من المتعلمين دفع بمطالب جديدة إلى دائرة النقاش العام، ورفع مستوى الجدل والحوار السياسي والثقافي والفكري، وارتفع بمستوى الأفكار عبر أدوات التواصل الاجتماعي والتواصل العلمي مع الجامعات ومراكز البحوث الأجنبية، ورفع مستوى ومعدلات مشاركة السعوديين في الندوات والمؤتمرات العلمية بالخارج، وعلى جانب آخر، فقد أدار الكثير منهم مشروعاتهم الخاصة، وانخرط بعضهم في خدمات الاستشارات وبيوت الخبرة، وجرى تسكين بعضهم من الأسماء التي أصبحت تتردد في الإعلام ومراكز صناعة القرار ليرفدوا نخبة الحكم بالتقارير والاستشارات العلمية، وذلك ما يؤكده منتج رؤية المملكة 2030، الذي يشير إلى استفادة المملكة من دارسيها الجدد.
ولا يمكن فصل ما تحقق للمرأة عن التحول والطفرة التي حققها برنامج الابتعاث الخارجي، وذلك ما بدأ ينعكس في بروز عشرات الأسماء الجديدة من السعوديين والسعوديات في الكثير من الجامعات ومراكز البحث العالمية في السنوات الأخيرة. وهؤلاء جميعا أحدثوا ثورة وحراكا اجتماعيا واقتصاديا وعلميا في الداخل، وأسهموا في تغيير الصورة النمطية للمملكة التي درجت على توظيفها سلبا المنظمات الحقوقية الأجنبية، والتي لم يكن يتصدرها إلا ممارسات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنقاب.
ثالثا: الظرف وإعادة اكتشاف “الزمن السعودي”
لا يكفي المدخلان الشخصاني والبنيوي، في تفسير الحالة السعودية الراهنة؛ لأنه في ظل تباين القيادات لم تبرز اختلافات كثيرة في توجهات الحكم، وفي ظل تغيرات بنيوية سابقة، لم تبرز تباينات كبيرة في صناعة القرارات. فلم يكن هناك تباين كبير بين عهدي الملك فهد والملك عبد الله رغم اختلاف الخصائص الشخصية، والتباينات الهيكلية، لذلك فإن ما يجلي أيضا جزءا من غموض التفسير هو عنصر الزمن والتوقيت والظرف، وهو العنصر الثالث في ثلاثية تفسير الحالة السعودية.
فمن أكثر ما يمكن أن يفسر المشهد السعودي الراهن -داخليًا وخارجيًا- ما يمكن اعتباره “إعادة إدراك واكتشاف الزمن”، والتأكيد على مفهوم “الزمن السعودي”، ليس فقط من ناحية الوضع الداخلي الذي يشير إلى إدراك جمعي بأن الوقت وقت المملكة لكي تقول كلمتها وتقود في الإقليم، وأنها المؤهلة لذلك، وإنما التصدير لفكرة عامة بأن “المملكة ضيعت وقتا طويلا بسبب التلكؤ والتباطؤ والترهل، حتى سمحت لمن هم أقل قدرة بتصدّر المشهد والقيادة في الإقليم”. ومن ثم، على المملكة أن تسابق الزمن للحاق بما تبقى والإمساك باللحظة والفرصة التي قد لا تتعوض، والتأكيد على أن النمط البطيء في العهود السابقة قد أضر بالمملكة، وهناك شبه انتفاضة تؤكد على أن مكانة المملكة ستتعاظم حتى من دون النفط، وأن ثروتها الحقيقية هي البشر.
ولا يعكس ذلك فقط أداء الأمير محمد بن سلمان، على نحو ما أظهرت تصريحاته ولقاءاته الإعلامية وكلماته العامة، وإنما أيضًا في مواقف الفريق الوزاري والاستشاري الذي يعمل معه، والذي يصدر هو الآخر مواقف وتصريحات مماثلة في القضايا الداخلية والإقليمية، ما يشير إلى أن أطياف النخبة -بدءا من الأمير الشاب ونخبة الوزراء والمستشارين وكبار المسئولين، فضلا عن النخبة الإعلامية المؤثرة في صحف وإعلام المملكة الداخلي والخارجي- يعزفون معزوفة واحدة، وهو ما يجعل ثمة قدرا عاليا من الانسجام في تصريحاتهم بخصوص قطر، أو إيران، أو اليمن، أو لبنان حاليا، وجميعها تشير إلى “حالة اقتحامية”، تؤكد على الاستعداد لمواجهة الكل وفتح مختلف الملفات، والإقدام على ما يمكن أن يعد من قبيل المستحيل وعكس الطبيعة، فبالنسبة لهم تترسخ قناعة أنه “لا شيء مستحيل”.
ويمكن اعتبار تصريح ولي العهد بخصوص التعامل مع التطرف والإرهاب كتصريح مركزي حاكم لرؤيته وعاكس لشيفرته العقلية في التعامل مع الأزمات وإدارتها، حين قال “باختصار..، لن ننتظر 30 سنة أخرى للقضاء على التطرف والإرهاب، وإنما سندمرهم الآن وفورا”، وهي رؤية تعكس أنه “لا مهادنة مع الآخر، ولا أنصاف حلول، ولا مجال للصبر”، وهي الطريقة والرؤية والأسلوب نفسه الذي تمت تجربته في ترتيب الشأن الداخلي، وعمل بنجاح. ويتسق مع ذلك النظرة إلى أزمة قطر على أنها أزمة صغيرة، وفي حديثه عن إيران وتأكيده أنهم إذا تدخلوا في شئوننا سنصدر المعركة إلى الداخل الإيراني، وفي أزمة لبنان مؤخرا. ويمكن مراجعة تصريحات وزير الخارجية عادل الجبير، ومستشار الديوان الملكي سعود القحطاني، ووزير شئون الخليج ثامر السبهان في الأزمة اللبنانية مؤخرا، فضلا عن مئات الكتابات والمقالات التي تعكس آراء النخبة السياسية والإعلامية، وجميعها تعكس “الحالة الاقتحامية” التي تشير إلى الاستعداد لتوصيل مختلف الأزمات إلى حافة الهاوية.
وإلى حد كبير، يسهل التعرف على أسباب ودواعي تبني هذا الموقف، من أمير شاب يستند إلى نخبة متعلمة تعليما عاليا، تعتقد بإمكان تغيير المشهد والخروج على الثوابت، ومواجهة التحديات التي تعثر فيها الأوائل بأنماط تفكير جديدة، متأثرة بالمنهج والطريقة الأمريكية. ولكن في النهاية، فإن النتائج سيحددها الواقع على الأرض وليس الاعتبارات العقلية والنفسية لصناع القرار، كما ستتأثر بالفوارق بين فائض الطموح وواقع القدرة.
وتتمثل أبرز ملامح ضغوط التوقيت والظرف في مجموعة مستجدات أساسية، فإذا جرى قياس تطورات المملكة على مقياس المدخلين السابقين (الشخصاني والبنيوي) فقط، فإن عهد الملك سلمان لم يكن ليختلف كثيرا في توجهاته السياسية والاستراتيجية عن عهدي الملكين فهد وعبدالله، وربما كانت قد وضعت عراقيل أمام سيناريو ترتيب الحكم للأمير محمد، حيث لن تكون هناك مبررات قوية تمكن من تمرير هذه القرارات الحادة والشاملة والصادمة أحيانا. لكن جملة من المتغيرات التي ترافقت مع عهد الملك سلمان دفعت بكل هذه التغييرات إلى صدارة المشهد وجعلتها أمرًا واجبًا وعاجلًا.   
أول هذه المتغيرات والضرورات الدافعة لترجيح مدخل التوقيت والظرف، هو تراجع أسعار النفط، فحتى أشهر قليلة من آخر عهد الملك عبدالله بلغت عائدات وفوائض النفط أرقاما مكنت الدولة من المضي قدما في مختلف برامج الإنفاق دون تقليص في حصة المشروعات والبرامج، وقد حافظ ذلك على الثقة والتفاؤل الوطني، ثم تراجعت أسعار النفط إلى نقطة حرجة، وتراجعت عائداته بشدة. وفي إحصائية لإدارة معلومات الطاقة (بوزارة الطاقة الأمريكية)، تم تقدير دخل المملكة من تصدير النفط الخام عام 2015 بنحو130  مليار دولار (487.5 مليار ريال)، وكانت المملكة قد سجلت أعلى دخل لها في آخر عشر سنوات عام 2012 عندما بلغت قيمة مبيعاتها من النفط الخام 1.1 تريليون ريال(297 مليار دولار)[6].وواصلت عوائد النفط الانخفاض في عام 2016، فبلغت عائدات المملكة من صادراتها النفطية منذ بداية العام وحتى نهاية أغسطس 73.6 مليار دولار.وبالنظر إلى أن الإيرادات النفطية تشكل 90% من إجمالي إيرادات المملكة السنوية، فقد برز تأثير ذلك المباشر على الميزانية السعودية أعوام 2015 و 2016 و 2017.
ولم يكن غريبا في ضوء ذلك أن تشتمل ميزانية المملكة للأعوام الثلاثةعلى عجز كبير. فقد بلغ عجز الميزانية لعام 2015 حوالي 366 مليار ريال (98 مليار دولار)، حيث بلغ الإنفاق الحكومي260  مليار دولار، بينما قدرت العائدات بـ 168 مليارا. وعلى الرغم من أن ميزانية 2016 تقررت بعجز أقل 33% من العجز بميزانية 2015 إلا أنها تضمنت عجزا بحوالي 297 مليار ريال، أما ميزانية 2017 فتضمنت عجزا بنحو 198 مليار ريال، وهو ما يعني استمرار تزايد معدلات الإنفاق على الإيرادات لثلاث سنوات متتالية بنسب كبيرة، وذلك أثقل ميزانية الدولة. ولذلك تخطط رؤية المملكة للعيش من دون النفط وتعزيز الاستدامة المالية وتنويع مصادر الدخل وترشيد الإنفاق الحكومي ودعم القطاع الخاص.
المتغير الثاني هو الأزمات الإقليمية (إيران، اليمن، سوريا، قطر): إذ لا يمكن التعرف إلى السبب الأساسي في تراكم الأزمات الإقليمية حول المملكة دفعة واحدة، فهل الأزمات هي التي اندفعت نحو المملكة، أم أن المملكة هي التي بادرت بالتأزيم في علاقات الجوار؟
لا شك في أن الاثنين معا كانا على موعد؛ فقد ترافق التغيير في الحكم وقدوم الملك سلمان مع أقصى مراحل للتغلغل العسكري الإيراني في دول الجوار وفي الخليج من خلال الحرس الثوري. كما ترافق التغيير مع وصول الخطر الإيراني إلى الجار الجنوبي للمملكة الذي كان مأمونا تقليديا، بعد انقلاب الحوثي- صالح وتزايد مؤشرات الدعم الإيراني للحوثيين. وجاء التغيير أيضا في ظل أقصى فترات انتشار الجماعات الشيعية المسلحة مادون الدولة في الإقليم، وعلى رأسهم حزب الله على نحو شكل أكبر تحدٍ لسياسة المملكة تجاه الأزمة السورية. كما جاء التغيير في سياق مشهد خليجي ظل مستمرا ومستقرا، لكنه ينطوي على جوانب خلل شديدة منذ أكثر من 20 عاما وتمثل في بروز دور قطري نال على الأرجح من الدور السعودي، ثم تطور على وقع تحالف قطر مع الإخوان المسلمين، وانفجر في أزمة الرباعي العربي مع قطر في مايو 2017، ما أشار بأن قطر لا تريد أن تترك فرصة للمملكة لكي تستعيد القيادة، وهي التي تركت قطر في هذا الموقع لسنوات طويلة، مع فارق المكانة والحجم والدور، وبرزت ذروة التحدي القطري للمملكة مع اتجاه قناة الجزيرة إلى التحريض ضد الأوضاع الداخلية في السعودية، التي بدت كمارد عملاق ظل نائما وترك دوره لغيره سنين طويلة، ثم أفاق ليرى الخطر على بابه.
المتغير الثالث هو التغيير في القيادة الأمريكية بعد فترة إدارة أوباما التي خلخلت قواعد وأسس التحالف الاستراتيجي الأمريكي السعودي، ومع حلول إدارة ترامب أتيحت الفرصة لعقد صفقة تاريخية توفر للمملكة فرصة لضبط الأوضاع واستعادة دور القيادة، ولذلك كان الترتيب مع هذه الإدارة فورا إثر إعلان فوز ترامب، وربما قبل ذلك من خلال مجموعات عمل مشتركة، رتبت لما جرى الإعلان عنه تاليا في القمة الخليجية الأمريكية الإسلامية في مايو 2015.
لقد ترافق تلاقي المداخل الثلاثة السابقة، مع إدراك سعودي داخلي بأن أحد أسباب ذلك هو حالة الترهل والكسل والتراخي، وأرجع البعض السبب إلى سياسات الملك الراحل عبدالله، وهو أمر كتب عنه -وتوارى بسرعة- بعد رحيل الملك مطلع 2015.
الخلاصة
تؤكد المداخل الثلاثة سالفة الذكر، أن قدرا من “الاندفاع السعودي” في سياسات الداخل والخارج مفهوم. وباختصار، فقد تجمعت مجموعة مشاهد مفزعة في الداخل والخارج، مع فرص قرأها صانع القرار على أنها قد تكون الأخيرة، التي تمكنه من اتخاذ قرارات سريعة ودراماتيكية لإحداث تغييرات ضرورية في الداخل وسياسات في الجوار تمكنه من إصلاح ما يمكن إصلاحه، وليس أدل على التجاوب العاطفي والوجداني مع هذه الحال من وصف مثقفي ونخب المملكة لما يجري. فلقد لخص الكاتب السعودي عبدالرحمن الراشد المشهد كله في قوله: “كان البعض يعتبر السعودية جنازة حارة تنتظر الدفن؛ يستهدفها الإيراني الضخم، والقطري الصغير…اقتصاد ينكمش مع انهيارات أسعار البترول، وبيروقراطية متضخمة، والتزامات على الدولة مستحيلة تجاه مواطنيها وغيرهم، وإنتاجية رديئة من المؤسسات البيروقراطية… كل هذه الدوائر تم إدخالها غرفة العمليات بقرارات وترتيبات في إطار مشروع إعادة بناء المملكة الجديد” [7] وتساءل الكاتب صالح السعيد بتعبيرات بلاغية حزينة: “قفزة هائلة، ونقلات متسارعة، تجعلنا نصاب بدوار، ما الذي يحصل؟!، وكيف تقبلنا ركودنا السابق؟! [8]. أما عبدالرحمن السلطان، فقد أطلق على ما يجري تعبير “الزمن السعودي”، مؤكدا أننا “نخلع رداء التوقف والجمود، ونسابق الزمن لنتجاوز المحيط، ونحاول تعويض ما فاتنا خلال السنوات الماضية” [9]. ولم يكن غريبا أن يشبه البعض ما يحدث في المملكة بالإعصار أو التسونامي، الذي جاء عاصفاً ليجرف معه كل ما توطن من تشدد وفساد ومحسوبية ثم استزراع كل أسباب النمو والعصرنة والتحديث[10].
هذه المقالات التي عبرت عن الحزن على زمن فات –وغيرها الكثير في صحف المملكة- تجسد أكثر ما تجسد عملية داخلية كبرى هي أقرب إلى الثورة و”إعادة اكتشاف الذات”، وتشير إلى أن المدخل الشخصاني وحده لا يكفي في قراءة ما يجري، في ظل أوضاع داخلية كانت بحاجة إلى “زلزال اصطناعي”. وهكذا يتبين أن تلاقي المداخل الثلاثة (الشخصاني، والبيروقراطي، وعنصر التوقيت)، يمكنها أن تفسر تفسيرا متوازنا ليحدث على خريطة السياسة السعودية، أما الاكتفاء بواحد أو اثنين منها فلا يمكن وحده أو كلاهما من الإحاطة بمجمل جوانب الصورة.
[1] انظر على سبيل المثال: حسين شبكشي، “ما الذي يحصل في السعودية؟”، صحيفة الشرق الأوسط، 15  مارس 2016. أيضا: حليمة مظفر، “ماذا يحدث في السعودية؟”، صحيفة الحياة، 17  سبتمبر 2016.   ناصر الصرامي، “ماذا يحدث في المملكة اليوم؟”، صحيفة الجزيرة، 14 نوفمبر 2017.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *